من أسرار القرآن الكريم (للدكتور زغلول النجار )هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في أوائل الربع الأخير من سورة الحجر وهي سورة مكية وآياتها تسع وتسعون99 بعد البسملة وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة في الآية الثمانين منها إلي الحجر وهو اسم اطلق علي مدائن قوم نبي الله صالح ـ عليه السلام ـ الذين عرفوا باسم قوم ثمود أو عاد الثانية وهذه المدائن عبارة عن أعداد من البيوت المنحوتة في الصخور الرملية المكونة لجانبي وادي القري أو المجلوبة إلي بطن الوادي بواسطة السيول الجارفة وبواسطة غيرها من وسائل النقل التي تفوق قدرة البشر لضخامة احجامها, ومدائن صالح الحجر هي الآن خربة تقع إلي الشمال الغربي لمدينة رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ في منتصف الطريق القديم ـ تقريبا ـ بينها وبين مدينة تبوك.
ويدور المحور الرئيسي لسورة الحجر حول ركائز العقيدة الإسلامية, شأنها في ذلك شأن كل السور المكية, واستخدمت في ذلك العديد من آيات الله في الكون وقصص عدد من الأمم البائدة.
هذا وقد سبق لنا استعراض سورة الحجر وما جاء فيها من ركائز العقيدة الإسلامية, والاشارات الكونية والتاريخية, ونركز هنا علي ومضة الاعجاز التاريخي بذكر اصحاب الأيكة كما جاء في الاية الثامنة والسبعين وماتلاها من آيات إلي ختام الآية الرابعة والثمانين من سورة الحجر.
من الإعجاز التاريخي في ذكر أصحاب الأيكة
أصحاب الايكة هم قوم نبي الله شعيب ـ علي نبينا وعليه من الله السلام ـ وهم أهل مدين, كانوا عربا سكنوا الاطراف الشمالية الغربية من أرض الحجاز في المثلث المتكون عند التقاء خليج العقبة بالبحر الأحمر علي هيئة كتلة صخرية كبيرة تعرف جيولوجيا باسم كتلة مدين وتقع في الزاوية المتكونة بالتقاء خليج العقبة مع شمال البحر الأحمر, ممتدة من الثلث الجنوبي لخليج العقبة في خط مستقيم يتجه جنوبا بشرق ليلتقي بشمال البحر الأحمر.
وأهل مدين كانوا علي دين ابراهيم ـ عليه السلام ـ وهو الإسلام العظيم المعروف بالحنيفية السمحة, فهم بنو مدين بن ابراهيم ـ عليه السلام ـ ولكن بمرور الزمن اجتالتهم الشياطين فنسي نسلهم الدين فضلوا وأضلوا, وافسدوا في الأرض افسادا كبيرا, وأغرتهم الشياطين بعبادة شجرة من الأيك وسط غيضة ملتفة بها, ولذلك عرفوا باسم أصحاب الايكة وكان من ضلالهم ايضا انهم كانوا يبخسون المكيال ويطففون الميزان, كما كانوا يقطعون الطريق علي المسافرين, ويأخذون العشور من المارة, وكانوا أول من سن ذلك فبعث الله ـ سبحانه وتعالي ـ إليهم نبيه شعيبا ـ عليه السلام ـ يدعوهم إلي عبادة الله ـ تعالي ـ وحده, وينهاهم عن الشرك بالله, وعن اعمالهم وسلوكياتهم الخاطئة.
وذكرهم نبيهم شعيب بنعم الله ـ تعالي ـ عليهم, ومنها انه ـ سبحانه وتعالي ـ اكثرهم من بعد قلة, واغناهم من بعد فقر, كما نصحهم نبيهم بأن القناعة بالرزق الذي قسمه الله ـ تعالي ـ لهم هو خير من أكل أموال الناس بالباطل, وان مايبقي لهم من الربح بعد وفاء الكيل والميزان خير من تطفيفهما, وان دين الله الذي أنزله علي سلسلة طويلة من انبيائه ورسله, ثم جاءهم به نبيهم شعيب هو خير لهم من معتقداتهم الفاسدة, فسخروا منه, وهددوه ومن آمن معه بالطرد من قريتهم ان لم يعودوا إلي شركهم وفسادهم, فأنزل الله ـ تعالي ـ بهم رجفة قضت علي اغلبهم وهم في بيوتهم ـ ونجي الله ـ تعالي ـ شعيبا وقلة من أصحاب مدين كانوا هم الذين امنوا معه, وفي ذلك يقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ في محكم كتابه وإلي مدين اخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس اشياءهم ولاتفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم ان كنتم مؤمنين* ولاتقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا اذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين* وإن كان طائفة منكم آمنوا
بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتي يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين* قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك ياشعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين* قد افترينا علي الله كذبا ان عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا ان نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما علي الله توكلنا ربنا إفتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين* وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون* فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين* الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين* فتولي عنهم وقال يا قوم لقد ابلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسي علي قوم كافرين* الاعراف:85:93
وجاء ذكر نبي الله شعيب وذكر قومه في خمسين آية من آيات القرآن الكريم منها الآيات السابقة85:94 من سورة الاعراف ومنها الآيات84 ـ95 من سورة هود والآيتان78 و79 من سورة الحجر والآيات176 ـ191 من سورة الشعراء والآيتان37,36 من سورة العنكبوت بالاضافة إلي ثلاث آيات في سورة القصص وآية واحدة في كل من السور طه. الحج. ص. ق.
ففي سورة هود يقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ وإلي مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره ولاتنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط* ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولاتبخسوا الناس أشياءهم ولاتعثوا في الأرض مفسدين* بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ* قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك ان نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد* قال ياقوم أرأيتم ان كنت علي بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا* وما أريد أن أخالفكم إلي ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب*
ويا قوم لايجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد* واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود* قالوا ياشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز* قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا ان ربي بما تعملون محيط* ويا قوم اعملوا علي مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب و
ارتقبوا اني معكم رقيب* ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنو معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين* كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود*[ هود:84:95].
وفي هذه الآيات تأكيد علي انحراف أصحاب الأيكة إلي الشرك بالله, فدعاهم شعيب إلي التوحيد الخالص. وفيها تأكيد علي شيوع تطفيف الكيل والميزان في مجتمعهم علي الرغم مما كانوا فيه من سعة الرزق, فدعاهم إلي الرجوع عن ذلك, وهددهم بعذاب يوم القيامة نظرا لشركهم وإفسادهم في الأرض, كما هددهم بمصائر اشباههم من الأمم السابقة عليهم من مثل أقوام كل من انبياء الله نوح, وهود, وصالح ولوط ـ علي نبينا وعليهم من الله السلام ـ مضيفا: وما قوم لوط منكم ببعيد اي في كل من الزمان والمكان وهي حقيقة تاريخية وجغرافية دقيقة وحذرهم من مغبة الخروج علي اوامر الله ـ تعالي ـ وامرهم بضرورة استغفاره والتوبة إليه وهو ـ تعالي ـ الرحيم الودود, غافر الذنب, وقابل التوب, شديد العقاب.
وفي مقابل هذه النصائح الغالية هدده قومه بالرجم لولا عشيرته الاقربين, فأنذرهم شعيب بنزول عذاب الله ـ تعالي ـ بهم فأخذتهم الصيحة.
فأصبحوا في ديارهم جاثمين أي موتي هامدين لاحراك بهم, ولذلك قال ـ تعالي في سورة الحجر:.
وإن كان اصحاب الايكة لظالمين. فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين. الحجر:78 و79.
والتثنية في ختام هذه الآية الكريمة تشمل كلا من أصحاب الأيكة وقوم لوط, لتقاربهما في الزمان والمكان كما سبق أن اشرنا.
وفي سورة الشعراء قال ربنا ـ سبحانه وتعالي في ذكر كل من أصحاب الأيكة ونبيهم شعيب ـ عليه السلام:
كذب أصحاب الأيكة المرسلين* إذ قال لهم شعيب ألا تتقون* إني لكم رسول امين, فاتقوا الله واطيعون* وما أسألكم عليه من أجر إن اجري إلا علي رب العالمين* وأوفوا الكيل ولاتكونوا من المخسرين* وزنوا بالقسطاس المستقيم* ولاتبخسوا الناس اشياءهم ولاتعثوا في الأرض مفسدين* واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين* قالوا إنما أنت من المسحرين* وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين* فأسقط علينا كسفا من السماء ان كنت من الصادقين* قال ربي أعلم بما تعملون* فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم* إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين* وإن ربك لهو العزيز الرحيم*
وجاء في سورة العنكبوت قول الحق ـ تبارك وتعالي:
وإلي مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ولاتعثوا في الأرض مفسدين* فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين*. العنكبوت:36 و37.
وانطلاقا من هذه الآيات القرانية الكريمة ندرك أن عقاب الكافرين من أصحاب الأيكة كان رجفة جاءت في سورة الاعراف وصيحة جاءت في سورة هود, وظلة جاءت في سورة الشعراء فاجتمعت عليهم هذه النقم الثلاث في لحظة واحدة, وجاءت كل واحدة منها في السياق الذي يناسبها, فلما كان تهديد كفار أهل مدين لنبي الله شعيبا والذين امنوا معه في سورة الاعراف بالإخراج من قريتهم جاء ذكر الرجفة ولما كان تهديدهم في سورة هود بالرجم بالحجارة جاء ذكر الصيحة ولما كان تحديهم في سورة الشعراء بقولهم فاسقط علينا كسفا من السماء ان كنت من الصادقين عوقبوا بعذاب يوم الظلة وهي ثلاث صور من التعذيب اجتمعت عليهم في لحظة واحدة, رجفة وصحية, وظلة, أو توالت عليهم فأصبحوا في ديارهم جثثا هامدة لاحراك فيها, ونجي الله ـ تعالي ـ نبيه شعيبا والذين امنوا معه. ولاتزال في قلب كتلة مدين الصخرية قرية تسمي البدع بها بئر يطلق عليها اسم بئر نبي الله شعيب وهذه البئر بقيت علامة تاريخية تشهد بصدق كل ما جاء في كتاب الله من حديث عن نبي الله شعيب وقومه.
وإذا تمت دراسة هذه المنطقة جغرافيا وجيولوجيا وتاريخيا لاتضحت لنا ادلة جديدة علي صدق رواية القرآن الكريم عن هؤلاء الاقوام.
هذا التفصيل عن نبي الله شعيب وقومه اصحاب الأيكة أو اصحاب مدين والذي جاء في50 آية قرنية كريمة, جاء فيه ذكر نبيهم شعيب11 مرة, ومدين10 مرات وأصحاب الأيكة4 مرات كل ذلك أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة علي نبي أمي ـ صلي الله عليه وسلم ـ في أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين وهو ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لم يثبت في سيرته الشريفة أنه وصل إلي منطقة مدين قط, وان قصة شعيب مع قومه كانت قبل بعثة المصطفي ـ صلي الله عليه وسلم ـ بقرابة ألفي عام من1244 ق.م ـ610 م فمن اين له هذه التفاصيل ان لم تكن وحيا من رب العالمين؟ خاصة ان العرب لم يكونوا امة تدوين في زمانه ولا من قبل زمانه!
وان قيل انه سمع ذلك من أهل الكتاب, رددنا عليهم بأن ذكر شعيب لم يرد في العهد القديم كله إلا مرتين فقط في ثنايا قصة موسي ـ عليه السلام ـ مرة باسم رعوئيلReuel كاهن مدين سفر الخروج16/2 ـ22 واخري باسم يثرونJethro كاهن مديان سفر الخروج1/3.
من هنا كان في تفاصيل قصة نبي الله شعيب ـ عليه السلام ـ في القرآن الكريم, وفي وصف احوال قومه بالتفصيل, وفي نعتهم بأصحاب مدين أو اصحاب الأيكة وفي الاشارة القرآنية الكريمة التي يقول فيها ربنا ـ تبارك وتعالي ـ وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين. الحجر:78.
من صور الاعجاز في كتاب الله اعجازا تاريخيا ما يشهد للقرآن الكريم بأنه لايمكن ان يكون صناعة بشرية, لان المؤرخين لايعرفون شيئا عن نبي الله شعيب ـ عليه السلام, ـ والكتب المتوفرة لدي أهل الكتاب لاتعرف عنه سوي انه كان كاهنا لأهل مدين, لجأ إليه موسي ـ عليه السلام ـ وتزوج من إحدي بناته السبع, والقرآن الكريم يسجل انهما كانتا ابنتين فقط, وعلي ذلك فلولا هذا التفصيل القرآني عن نبي الله شعيب وقومه ما كان امام الناس وسيلة للتعرف علي هذه الأمة من الأمم, ولا ما اصابها من صنوف العذاب في الدنيا ولاما ينتظرها من صور العذاب في الاخرة وهو أشد وأبقي.
فالحمد الله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي نعمة القرآن والحمد لله علي بعثة خير الانام ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هديه ودعا بدعوته إلي يوم الدين ـ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.